YOUR EXISTING AD GOES HERE

تونس – السفير
بقلم: ظافر بالطيبي
لاشكّ أنّ عامل الثقة بين المثقّف ووزارة الداخليّة مازال متأثرا بما كانت عليه ومازالت حالة المنظومة الأمنية منذ عهد بن علي وإلى الآن، إلاّ أنّ هذه العلاقة المراوحة بين المدّ والجزر لا ينبغي أن تهيمن على كل روايات الداخلية للأحداث فيما يخص بعض العمليات الإرهابيّة الخطيرة التي تضرب البلاد بين الحين والآخر لغاية في نفس يعقوب “إسرائيل”. وذلك دون أن يغلب على هذه العلاقة جانب التقديس من جهة المواطنين ولا جانب الاستغباء من جهة الوزارة الأمنيّة.
عمليّة باردو ليست إلاّ فصلا من مشهد قد نصفه بأنه أقرب إلى مسرح الواقع منه إلى التمثيليّة أو المؤامرة. فاليد التي تضرب وتقتل وتُستعمل في مثل هذه العمليات القذرة، هي للأسف يد شباب تونسي توّفرت له كلّ أسباب الحقد والضغينة والتطرف منها ماهو عمدا ومنها ماهو طبيعي لعوامل عديدة يعرفها كلّ شباب البلاد..
نحن اليوم إزاء إرهاب جديد وذكي وعلى غاية من التطور والخطورة، يتجاوز في عمقه وحقيقته تحليل بعض الأدعياء أو الخبراء الفُجئيين الذين يصنعهم إعلام ما يعمل من أجل أجندات خاصة أو مصالح عابرة أو إيديولوجات غابرة..
الإرهاب اليوم يقوم على مخططات خفيّة تنسجها عقول نابغة في التخطيط والحبكة ورسم الاستراتيجيات القريبة والبعيدة وفق عديد المقاييس والافتراضات المحتملة. وبصورة أوضح هو إرهاب له مبرراته في المناخات التي يعيش فيها وفي عقائد الأشخاص الذين يتبنونه منهجا تارة باسم “الجهاد” وأحيانا باسم “المقاومة” ومرات باسم “القومية” وأحيانا باسم “العصبيّة”.. تختلف المسميات ويبقى الفعل هو ذاته. والأخطر أنه إرهاب مركّب بحيث يكون أشبه بلعبة الصناديق -لعبة الصندوق داخل الصندوق وهكذا..- الطرف الأوّل الذي يقف وراءه هو الطرف الأقوى في كامل المشهد على مختلف المستويات الدوليّة والإقليمية والعالميّة..
ومن هنا كانت فكرة “الأمن الموازي”، وهي ليست بالفكرة المبتدعة في تونس بل هي قديمة في كبرى الدول الغربية والاستعمارية، ولا يعلم به حتى كبار مسؤولي وموظفي الدولة وهو أشبه بالسوق الموازية في الاقتصاد ولكنه يشتغل على المستوى الأمني الداخلي والخارجي ويتحرك باسم المصلحة العليا “للدولة” أو “للأمة” أو “للجماعة” أو “للفئة” أو “العائلة” الحاكمة. وعادة ما تناط بهذا الجهاز السري في الدول “الكبرى” كل المهام القذرة التي لا يُمكن احتواؤها عبر القوانين الداخليّة أو الدوليّة المعمول بها في تلك الدولة أو الأخرى. إلاّ أنّ هذا الجهاز على ما يبدو قد دخل بعد الثورة وسقوط نظام بن علي وكبار مساعديه للعمل في “السوق العالميّة” بعد أن كانت لهم في البلاد باع وذراع ونخشى أن يكون شق منهم عاد للعمل صلب المنظومة الأمنية بعد احتوائه من قبل حاضنات استخباريّة عالميّة وغربيّة بالأساس. وهناك معلومات مؤكدة في هذا الإطار عن وجود أعداد من “الأمنيين المرتزقة” يعملون في قواعد عسكريّة في بلدان أجنبيّة في كل من إيطاليا وأمريكا ولبنان على سبيل المثال، نأمل أن تكون الدولة تتابع ملفات مثل هؤلاء لأنهم يشكلون خطرا على الأمن القومي بصورة أو بأخرى لاسيما في ظلّ الأوضاع الأمنية الراهنة..
وفي هذا السياق، سياق الأمن الموازي لابدّ من استحضار حالة عميلة الموساد “جمال زعرورة” التي تمّ تجنيدها من قبل عميل الموساد المدعو “عبد الحفيظ الجندوبي” الذي كان يشتغل في إحدى محطات الوقود بجندوبة. حيث ورد في إفادتها بعد القبض عليها في لبنان بتهمة التخطيط لاغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله، أنّها بعد أن أجبرها “عبد الحفيظ” على قتل أحد معارفه –تبيّن أنه مجنّد سابق في الموساد- وقع القبض عليها من مجموعة “خاصة” شبيه بالشرطة التونسيّة وحققوا معها وأعلموها بعلمهم بتنفيذها عملية الاغتيال ثمّ قايضوها بتنفيذ عمليات اغتيال أخرى لصالحهم انطلاقا من فرنسا ثم لبنان رفقة خليّة أخرى وقع القبض عليها ونشر تفاصيل القضية الحدث في وسائل إعلام لبنانية مختلفة…
مثال لقضية زعرورة ما تم نشره في جريدة الوطن
http://www.alwatan.com/graphics/2004/06jun/05may/19.5/dailyhtml/news4.html
ما بدأ يحدث ليس في تونس فقط، بل في أغلب دول ما يعرف بالربيع العربي ومنها بلادنا، ليس بمعزل عن هذه العوامل الأمنية، التي تساعد كبار الحاكمين في دولهم وفي العالم (الأمم المتحدة ظاهريا) فالإرهاب هو أحد العوامل التي يتم استعمالها لحماية استمرار أنماط معينة أو إيديولوجيات بذاتها أو بالأخص مصالح محدودة ولكنها متشابكة يتداخل فيها الأمني بالسياسي بالاقتصادي بغيره من العواملة المتصلة.
فالإرهاب الذي يتم إعماله اليوم في تونس، ليس إلا أداة للسيطرة على مناطق نفوذ ومصالح أطراف كبرى (دول وشركات) تماهت نفوذها ومصالحها مع أطراف أقلّ منها حجما حتى تشكل أحيانا حلفا يكون متغيرا، سريّا أحيانا وعلنيا حينا وقد يصل حتى للجمع بين الأعداء في أطر زمانيّة ومجالات مكانية معيّنة.. (أمريكا وإيران نموذجا) وليس هذا الإرهاب في الحقيقة إلا لعبة شطرنج حقيقّة فيها بيادق لا ترى غير ما يراه لها من هو أكبر منها في القيمة والدرجة حسب التوزيع الذي حدده المخطط الأقوى، وتكون فيه تحركاتها دقيقة وحساسة وفي أغلب الأحيان عبر وسائل ضغط وأساليب ذكية لخلق المبررات اللازمة للتحرك نحو نقطة دون غيرها دون علم تلك البيادق التي سُلبت إرادتها وتظنّ أنها قد اختارت طريقها بعد أن تمّ شطب باقي افتراضات تحركاتها لباقي الخيارات التي قد تكون بديلة لها للتعبير عن وجودها..
تسمى هذه الاستراتيجية الجديدة في الجيل الرابع من الحروب المتماثلة الذي وصلت له مكاتب استراتيجيات المخابرات الكبرى (أمريكا وإسرائيل تحديدا)، “الإكراه على تنفيذ إرادة العدو” ويتم ذلك بشكل يظهر للضحية أنه أمر طبيعي وأنه غير ملوّث (لم تتداخل فيه مصالح أخرى)..
وللتوضيح أكثر وخروجا من التنظيرات المجرّدة للمفاهيم، ما يحصل في تونس من إرهاب هو “جهاد” عند منفذيه الذين اعتنقوا للأسف فكر التكفير بعد أن تم إرغامهم عليه ورسم الدولة الرسمية عندهم في صورة “الشيطان الكافر” الذي وجب قتاله، أو بعد أن اجتمعت فيهم غريزة التطرف والاندفاع الديني مع الجهل بمقتضيات الالتزام الديني، فكانوا فريسة سهلة للمندّسة من الخلايا الاستخباراتية الدوليّة النائمة والتي قد تكون من أبرز الموجودين على الساحة أحيانا.. وذلك لخدمة فئة الأسياد على اختلاف درجاتهم ورُتبهم (كاختلاف البيادق والعبيد في ذلك أيضا) والذين قد يكونون غالبا من الطرف الأقوى في لعبة الصراع على النفوذ والمصالح أي من الدُول الغالبة (قوى الهيمنة الدوليّة) والتي تتماهى مصالحها في عديد الأحيان والنقاط مع مخططات أعدائها في حدّ ذاتهم من عناصر الدول المغلوبة، فتعمل على السيطرة عليها والتحكم فيها واستعمال نقاط قوّتها بعد أن تحكم والتغلغل فيها ويتم ذلك عبر أسلوب الاستدراج والإكراه المخفي كما سلف الذكر.
العديد من المتابعين للوضع في بلادنا أصبحت رؤاهم كلها تشكيك في الروايات الرسمية بينما الأمر أكثر تعقيدا من ذلك حيث يستوي أحيانا الجلاد والضحيّة فيكون كلاهما ضحيّة لجلاد آخر أكبر من الاثنين مع حفظ درجات الاختلاف في المميزات والخصائل والأهداف.
التكفيريون اليوم في تونس وغيرها تماهت مصالحهم مع قوى استئصاليّة متطرفة خارجيّة تعمل من أجل إعادة استعمار الشعوب من جديد وضرب وحدة دولها بعد إثارة الفتنة وتفكيك أجهزتها وكانت لحظات ما بعد الثورات العربيّة من أكثر اللحظات مواءمة لتنفيذ استراتيجية إعادة رسم الخرائط وتوزيع النفوذ والثروات. حيث يتم دعم الجماعات المقاتلة والتكفيرية بعد الانغماس فيها والتحكم في قراراتها وتوجيه ضرباتها من جهة، وفي نفس الوقت السيطرة على مراكز قرار وحكم الدولة عبر أجهزة الاستخبارات الخارجيّة والعمل الدبلوماسي ويصبح المتحكم في المشهد بمثابة “الشيطان الناصح”. يوّجه بوصلة الأحداث عبر العصا التي كان من المفروض مواجهتها فتحولت إلى عصا تضرب بجهاز تحكم عن بعد.
ذلك ما حدث ويحدث اليوم في تونس وغيرها، وليس هذا إغراقا في نظرية المؤامرة في شيء، وخير دليل ما يُنشر في عديد الدراسات والمواقع وما يتحدث به خبراء أجانب وسياسيون كانت لهم اطلاعاتهم الخاصة على بعض كواليس الحكم ولو بنسب قليلة ومتفاوتة.
فأمريكا على سبيل المثال كانت تمول القاعدة في حربها على السفيات، ثمّ حاربت القاعدة فيما بعد وعملت على تقويض حكمها مع نظام طالبان في أفغانستان. كما دعمت نظام صدام حسين لغزو الكويت ثمّ تدخلت لضرب العراق وقبلها دعمت العراق في حربه ضدّ إيران بعد أن كانت حليفتها في عهد الشاه وانقلبت علاقتهما بعد ثورة الإسلاميين.. كما كانت الاستخبارات الصهيونية تسهل عمليات إيصال الأسلحة للجماعات المقاتلة في جبال الجزائر من تنظيم القاعدة، وكذلك عملت المخابرات المغربية وغيرها من أجل لعبة المصالح والنفوذ.. وهو ذاته ما قامت به سنة 2010 عندما حولت مبلغ مليون دولار لتنظيم القاعدة في أفعانستان على وجه الخطأ بينما كان المفروض تحويله لصالح الحكومة الأفغانية، وكذلك ما يحدث بصفة متكررة من أخطاء “غير مقصودة” مع تنظيم “الدولة الإسلامية” بالعراق عندما ترمي طائرات التحالف الأسلحة والمؤونة أكثر من مرة لمقاتلي “الدولة” عوض الجيش العراقي وغيره من الفصائل المناوئة للتنظيم، وأحيانا وعلى وجه “الخطأ” تقوم بقصف “حلفائها” بدل “أعدائها” من “الدولة” .. والأمثلة في ذلك عديدة..
الذي حدث في متحف باردو ليس مجرد حادثة إرهابية عابرة كانت نتيجتها 20 قتيلا من السوّاح وأحد أفراد فرقة مجابهة الإرهاب الشهيد أيمن مرجان ومن تبيّن أنهم منفذيْ العمليّة، والغاية منها إرباك الدولة أو محاولة “غزوها” من قبل “داعش” كما يذهب لذلك سطحيون من محللين وإعلاميين. فالعملية أكثر تعقيدا من ذلك، ورغم تضارب شهادات الشهود إلاّ أنّ ذلك لا يبرر ما ذهب إليه مُغالون من أنّ العمليّة مسرحية تم حبكها من قبل “الدولة العميقة” من أجل دعم توجه الاستئصال في سياسة البلاد العامة، وهو كذلك ليس مجرد عمل “جهادي” إرهابي صرف عفوي التحضير والتخطيط كما أراد صاحب مقال “يوم عادي” الذي تبنى العملية أن يوهم الناس عبر توصيف مراوغ للأحداث، أثبت به دون يشعر أنّ منفذي العملية كانوا أكثر من مجرد شابّين اثنين في العشرينات من عمرهما. فالمقال الذي نشر على موقع “المنبر” وقدم تفاصيل العمليّة وحرض على مزيد قتل السيّاح ومحاربة “الطواغيت” أثبت من خلال توصيفه للوقائع داخل المتحف أن هناك أكثر من انين في العملية وأنّه كان هناك من شاهد الواقعة وتمكن من الخروج مع الرهائن ربمّا بعد أو قبيل انتهاء العملية، وذلك رغم ما يزال يحف العملية برمتها من غموض واستفسارات.
فشهادات الشهود فيها على سبيل الذكر في رواية أنّ المنفذين كانوا أربعة أشخاص وكانوا ملثمين ‘يرتدون الكاغول)، ورواية أخرى تُبت وجود صاحب الزي الرياضي الذي بادر بإطلاق النار على حافلة السيّاح وكما أظهر ذلك التسجيل المُبّث من قبل وزارة الداخليّة والصور المنشورة للفاعلين بعد مقتلهما.. بينما تقول رواية أخرى أنّ أحد منفذي العملية كان يرتدي نظارات طبية ولم يكن أحد الاثنين القتلى اللذين تم عرض صورهم “الحصرية” في مسرح الجريمة الذي كان غريبا نوعا ما.. ولكن تجميع الشهادات قد لا يترك بينها تناقضا ظاهريا، فالاثنين هما حتما من المشاركين في العملية الإرهابيّة، إلاّ أنه قد يكون هناك من المنفذين من تمكن من الفرار مع الرهائن على الأرجح وقد يكون عددهم بين الاثنين أو ثلاثة وكانوا جميعا داخل مكان الحادثة، فكل الخيارات مفتوحة رغم أنّ شهادات الشهود لابد أن تؤخذ من عديد الزوايا والتثبيت حيث يمكن أن لا تكون روايتهم بالدقة المطلوبة نظرا لعوامل المفاجأة والمباغتة والصدمة من العملية…
أما رواية بعض المهووسين بالأفلام البوليسية الأمريكيّة أنّ منفذي العملية عناصر أخرى كانت ترتدي أزياء رسمية أو أنها تتبع جهة معينة داخل الدولة وما إلى ذلك من هلوسات تحليليّة، ليست إلا ضربا من العبث وتمييعا وتعويما لما جرى ويجري الآن في بلادنا وهو أخطر بكثير مما يتصوره البعض، فقد يمكن لبعض الشهود الخلط بين قوّات الأمن المقتحمة للمكان والإرهابيين.. وحيث تدل عديد المؤشرات أنّ هذا النزيف لن يتوقف على الأمد القريب على الأقل لأن من يقوم بالتنفيذ يحظى بالإسناد اللازم من الخارج متعدد الجنسيات والذي يستغل علاقاته المعقدة من أجل تسهيل منافذ ارتكاب هذه العمليات..
فالفكر التكفيري حاصل في بلادنا للأسف وقد تغذى كثيرا على الأخطاء الأمنية والجرائم والأحداث أدّت إلى مُضي “الجماعة” بلا رجعة في تبني عقيدة “الجهاد” بلا دعوة، بعد تكفير الدولة والمخالفين على وجه التعيين. فأي أحد من هؤلاء لن يتراجع اليوم إذا ما قدمت له السلاح والإسناد لتنفيذ عملية ما مسبقة التخطيط والإحاطة الاستعلاماتية واللوجستية..
إنه كما قلنا توفير أسباب الإرهاب، وتغذيته عبر بعض الأحداث ومن ثمة دفعه نحو الحدث عبر الاستدراج والتوظيف.. والإكراه على تنفيذ إرادة العدو الخارجي الذي يريد أن يجعل من تونس دولة غير مستقرة لغايات غير آنية، ولأسباب معقدة ومتشابكة يجتمع فيها المتناقضان في مكان واحد.. منها التدخل في القرار التونسي والتجسس على الدولة والضغط المباشر وغير المباشر على السلطة الوطنية عبر التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب الذي لا يختلف اليوم اثنان من المتابعين أن أصبح مركّبا وأكثر تعقيدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

رأي/ غزة.. وكنت من الواهمين أيضا..

تونس – السفير – بقلم العيد القماطي كنت من الواهمين، في أنصار لهيب غزّة، أن يتص…