YOUR EXISTING AD GOES HERE

تونس – السفير
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
بقلم: هادي العيادي (مدير مركز آفاق الإسلامي بكندا وعضو في رابطة علماء المغرب العربي)
قرأت المقال الذي نشره الأستاذ راشد الغنوشي بداية الأسبوع المنقضي أكثر من مرة بغية أن أتفهم جيدا رؤية صاحب المقال وتوجيهه للأحداث وأدلته من الواقع والشرع على المسار الذي انتهجته النهضة في سدة الحكم، لكني في الحقيقة لم أكد أجد فيما قرأت له شيئا مما أنتظر وأبحث عنه من التدليلات، وما وجدت في الحقيقة إلا تقريرات يوردها أحيانا في شكل مسلمات ويدلل عليها تارة بما يشبه التبريرات وتارة بما يشبه المسلمات أيضا حتى بدا لي كأن المقال لم يكتب ليفتح سجال للمهتمين والفاعلين السياسيين والشرعيين وخاصة من يسميهم بالمنكرين الحائرين المصدومين المستعجلين.
فكنت أنتظر أدلة وتوجيهات في المستوى الذي يذهب صدمة المصدومين وحيرة الحائرين ويخفت نكير المنكرين ويعقل المستعجلين على زعمه وأن تكون أدلته في مستوى رفع الحيرة والتساؤل الذين يفرضهما عنوان مقاله الذي اختار له صيغة تبرير قبول ما لا يقبل به عادة ومنطقا وقانونا وشرعا وهو الدخول في معاملة غير متكافئة والقبول بشراكة غير متكافئة !!! لكني صدمت واحترت فعلا في مقال بدا لي مجرد حزمة من التقريرات (حوالي 20 تقريرا)مشفوعة بتبريرات تكاد تكون عارية عن أدلة معتبرة من الواقع ومن الشرع في أسلوب يعتمد الإسقاط والوصاية قكانت أدلته هي نفس تقريراته وتبريراته فيما يشبه الاستعاضة عن الدليل بالتبرير !!
خلاصة ما يطرحه المقال:
1. سرد جملة من خيارات النهضة المثيرة للحيرة والمستدعية للإنكار والموقعة في الصدمة: الانسحاب من حكومة مستحقة بانتخابات حرة وشفافة، إسقاط مشروع العزل السياسي، توجيه العدالة الانتقالية بعد المصارحة إلى العفو والمصالحة وصاية من النهضة على جمهور الناخبين، الانسحاب من المنافسة على الرئاسة، التزام موقف الحياد في انتخابات الرئاسة، مصافحة أيد كانت النهضة تستنكف من مصافحتها، الانتقال بالعلاقة مع رموز المنظومة القديمة والثورة المضادة من موقع الصدام والتنافي إلى موقع التوافق والتعاون والمشاركة الخ …
2. تهويل درجة تأزم الوضعين الوطني والإقليمي
3. إسقاط مسلمة مفادها أن أغلبية (50+1 %) لا تصلح اساسا لشرعية الحكم في الديمقراطيات الناشئة سواء تشكلت هذه الأغلبية من الإسلاميين أو العلمانيين !
4. تطوير النهضة لاستراتيجية في التحول الديمقراطي وفي العلاقة بين التيارين الرئيسيين الإسلامي والعلماني
5. النفخ في انعكاسات وما يعتبرها مكاسب التي يراها ثمرة لانتهاج النهضة استراتيجية الانتصار لنهج التشارك والتوافق على نهج التنافي والإقصاء والمغالبة لإدماج الجميع في حكومة وحدة وطنية :
• سد طرق الفتنة التي اكتوت بها أجيالنا حسب زعمه
• عزل عناصر التطرف والاستئصال التي تدفع نحو الصدام بين النهضة والدساترة
• عملية انقاذ هائلة مما كانت ستتردى إليه البلاد لو تمسكت النهضة بحقها الديمقراطي في الحكم مما سيؤدي في نظر كاتب المقال إلى هدم البيت التونسي فوق رؤوس ساكنيه وتسنى بذلك صنع (الاستثناء التونسي) وإنقاذ الربيع التونسي من مصير مشابه لباقي ثورات الربيع العربي..
بادئ النظر خارج السياق الشرعي
قد يبدو لنا أن صاحب المقال سعى إلى إيجاد ترابط منطقي وربما عمد أن يرتقي به إلى درجة التلازم الحتمي بين مسلماته والإكراهات وبين ما أملاه ذلك على النهضة من استراتيجية صنعت بها – في نظره – الاستثناء التونسي بانعكاساته المنقذة ومكاسبه المعجزة !!
لكن عند التأمل سنجد أنفسنا تتقاذفها جملة من التساؤلات:
1. ما مدى صحة مسلمة صاحب المقال حول حتمية انتصار التوافق والشراكة على التنافي والمغالبة في الديمقراطيات الناشئة؟ وما هي درجة التوافق المتحققة وما هي ضمانات بقائها ونحن نشهد تصدع بناء أحد أركان التوافق ؟
2. هل كانت الإكراهات المحلية والدولية بالحجم المهول الذي يفرض على أطراف المشهد السياسي التونسي – كما يرى صاحب المقال – تقديم التنازلات الموجعة للنجاة بأنفسهم وبالبلاد ؟ أم كان أمرا يشبه التصالح بين اللص والمستأمن على الدار لنجاة المصطدمين سياسيا وليس نجاة البلد ؟؟
3. ما مدى ثقة صاحب المقال بأن كل الأطراف أو على الأقل الطرفين الرئيسيين سيؤمنان بنفس القدر والقوة بخيار التشارك والتوافق وما هي قدرة النهضة على فرض هذا الأفق الجديد في شراكة اعتبرها صاحب المقال نفسه غير متكافئة؟ بعبارة أخرى، هل كانت النهضة مكرهة أو مختارة في دخول هذه الشراكة؟ فإن كانت مختارة فكيف يعتبر صاحب المقال الشراكة غير متكافئة؟ وإن كانت مكرهة فما مدى صحة أن يكون المسار الذي سارت فيه النهضة ترجمة لخيار استراتيجي يصنع الاستثناء !؟
هناك نوع من التناقض والاضطراب فيما يطرحه صاحب المقال بين اعتبار النهضة وقعت تحت إكراهات قاهرة فرضت عليها القبول بشراكة غير متكافئة نجاة بنفسها أو بالبلاد وبين تصوير النهضة كسوبر حزب تجاوز خط النجاة وفرض البقاء إلى تطوير استراتيجية تصنع الاستثناء وتفرض تحولا ديمقراطيا نموذجيا هائلا !!!
4. ما هي حقيقة المصالح والمكاسب التي حققتها النهضة لنفسها وللبلاد مقابل ما اعتبره صاحب المقال بالتنازلات الموجعة في شراكة غير متكافئة ؟ وإن سلمنا بتحقق بعض المصالح التي يبرر بها مسار النهضة وتقديمها تنازلات موجعة، فلم يتغاضى صاحب المقال عن التعرض للمفاسد المترتبة على الأقل في نظر من وسمهم بالمنكرين الحائرين المصدومين المستعجلين ليدلل لهم على أنها مما يحتمل استراتيجيا لصنع الاستثناء ولو على سبيل إدراجها فيما أسماه بالتنازلات الموجعة !!!
5. صحيح أن النهضة وعدت بالتنمية والسلم والأمن ولم تطلب مبايعتها على الموت ومصارعة الخصوم، لكن خطتها الاستراتيجية التي انتخبت على ضوءها كانت تنبني على تقلدها مسؤولية تحقيق ما وعدت به لا أن تقوم فيما يشبه الوصاية بإشراك من لم يثق فيهم الناخبون في تلم المسؤولية !! كما كان من ضمن ما وعدت به العزل السياسي الذي أسقطت مشروع قانونه بعد تحويل وجهتها على غير رغبة الناخبين لها ووعودها لهم !! فالنهضة بهذا لم تكتف بعدم تحقيق ما وعدت به ناخبيها في هذه المسألة وإنما تجاوزت ذلك إلى ممارسة الوصاية بإسقاط ما صوت لها من أجله الناخبون ووعدت به تحت ذريعة الحكمة الغنوشية والمصلحة الوطنية !!!
ولو نظرنا للمقال من داخل السياق الشرعي
فستكون قائمة التساؤلات أطول وأعقد :
1. هل استراتيجية التوافق والتشارك قائمة على أسس سياسية بحتة أم سياسية وإيديولوجية أيضا ؟
2. هل التوافق والتشارك الإيديولوجي يدخل فيما اسماه صاحب المقال بالتنازلات الموجعة ؟
3. هل التنازل الإيديولوجي يترجمه – إن وجد – تقارب في الفهم بين من يعرف أنه معاد للحل الإسلامي وبين من يظن أنه حامل لوائه، أم إسقاط وتغاضي عن مسلمات شرعية أم يترجمه تعايش وفق مفهوم جديد لصاحب المقال لقوله تعالى (لكم دينكم ولي دين) ؟
4. لماذا ينفخ صاحب المقال فيما يعتبره مصالح تراعى ومكاسب تحقق ويتغاضى تماما عن التعرض للمفاسد المترتبة والخسائر الناجمة مع أن الأصل الشرعي هو تقديم النظر في المفاسد وأن درء المفاسد – كما هو مقرر عند الأصوليين – مقدم على جلب المصالح ؟ بحيث أن اعتبار المفاسد لدرئها – في التسديد والمقاربة الشرعيين – محور رئيس في اهتمام الناظر الشرعي بل مقدم على محور اعتبار المصالح لجلبها وهو أمر تغافل عنه صاحب المقال كلية!! إذا فالخطاب النهضاوي في استراتيجية النهضة الجديدة ينظر بعين المصالح المجردة عن الاعتبار الشرعي والنفخ فيها فيما يفتقر إلى النظر الشرعي والاستدلال النصيبل يكاد يعدم منه، كما يتغافل عن الوقوف عند المفاسد المترتبة والتي يفترض أن يقدم درؤها على جلب المصالح إن وجدت وصح اعتبارها شرعا !!
5. هل تطور تصور النهضة للديمقراطية من اعتبارها آلية ووسيلة إلى التبني العقدي والإيديولوجي ليتحول خط سير النهضة من استثمار الديمقراطية وسيلة للتمكين للإسلام رغم الخلاف في ذلك إلى اتخاذ الديمقراطية إيديولوجيا يستثمر الإسلام للتمكين لها تحت مظلة رعاية المصالح وغاية تواضع صاحب المقال إزاء هذه الجرأة الفجة أن يعتبر ذلك ضمن التنازلات الموجعة التي تحتمها المصلحة وإكراهات الواقع !!!
6. من المقرر أصوليا أيضا أن النظر في المصالح والمفاسد يستلزم التدليل الشرعي على أن المصلحة التي يزمع جلبها معتبرة شرعا وأن المفسدة التي يزمع درؤها محذر منها شرعا لا عقلا ونظرا مجردا وإلا صار ذلك ضرب من التشريع من دون الله (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) وأن رأس ذلك في مثل قول الله تعالى (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) البقرة 216
7. حتى لو تنزلنا في النقاش إلى ما يبدو إلى ما يبدو أنه طرح صاحب المقال وهو الإيمان العميق بضرورة التمكين للديمقراطية التي تتسع للجميع : من يعمل للإسلام ومن يعمل ضده . فماذا تقترح النهضة في استراتيجيتها التشاركية التوافقية من خدمة للإسلام فضلا عن التمكين له في نهج التوافق مع من لا يقبل بالإسلام هدفا ولا مصدرا ولا أساسا للحكم والحياة بل يعمل على إقصاءه أو على الأقل تهميشه ودروشته ؟؟
8. كل من اسحل العمل السياسي والقبول باللعبة الديمقراطية يبرر رؤيته بأنه ينظر للديمقراطية كآلية تؤسس لمطلب شعبي للحكم بالإسلام بما تفرضه صناديق الاقتراع دون اللجوء إلى العنف. لكن استراتيجية النهضة تغلق هذه النافذة من التكييف الفقهي والتنزيل الواقعي وتفرض مشاركة الحكم مع من لا يقبل بسيادة الشريعة ولو صوت أغلب الناس ضدهم !!! وهنا تفتح النهضة على الأمة بابا شائكا لم يطرق ودون أي تأصيل شرعي !!
9. نهج التوافق والتشارك مع من يرفض تحكيم الإسلام ومصدريته ألا يحول تكييف الديمقراطية الشرعي من استحلالها وسيلة تضمنها الإسلام في نظر من استحل ذلك إلى آلية محرمة شرعا لأنها ستفضي إلى إقصاء الإسلام وإهانته بدل أن يتم اعتباره على الأقل كما يقرره الدستور فضلا عن التمكين له ؟
10. الخطاب النهضاوي في استراتيجيته الجديدة يتوجه إلى استرضاء من يرفضون الخيار الإسلامي وتغدو عيناه عن تألف الغيورين على الخيار الإسلامي ويتعالى عن استرضاءهم بل يسمهم بالمستعجلين والتجزيئيين وأوصاف أخرى أقل أو أكثر حدة في غير هذا المقال تتجه باتجاه تسفيههم !! فنحن بإزاء خطاب نهضاوي يسترضي خصوم الإسلام ويعمل على طمأنتهم فيما لايكترث بالتأصيل الشرعي وإقناع الغيورين على الخيار الإسلامي !!!
11. ختاما أطرح هذا التساؤل الجاد : هل الخطاب النهضاوي صار فارس استراتيجية نموذجية متقدمة تصنع الاستثناء وتفتح أفق التعايش السلمي وتسد طرق الفتنة أم أنه ضحية استراتيجية ارتدادية موجعة ومدمرة تنخرط في خط تجفيف منابع التدين الصحيح والتمكين الحق للدين تحت مظلة رعاية المصالح وإنقاذ سفينة الوطن من الغرق وبعناوين إسلامية ؟؟!!
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

رأي/ غزة.. وكنت من الواهمين أيضا..

تونس – السفير – بقلم العيد القماطي كنت من الواهمين، في أنصار لهيب غزّة، أن يتص…