YOUR EXISTING AD GOES HERE

تونس – السفير – ظافر بالطيبي

يحتوي القرآن الكريم على نحو اثنين وثلاثين آلفا وخمسة عشر حرفا (320015) ونحو سبعة وسبعين ألفا وأربعمائة وتسعة وثلاثين كلمة (77439) وأكثر من 6 آلاف آية كريمة. تخيلوا فقط لو حفظ أو قرأ أو تعلّم أبناؤنا كل هذه الحروف والكلمات والآيات وهم في بداية أعمارهم وفي مرحلة النقش على الحجر كما يقول المثل العربي المشهور؟ أيّ رجل تصنع عندما تعلم إبنك القرآن وأي رجل تصنع عندما يشرفك إبنك بحمله في صدره عن ظهر قلب؟ حتما سيكون من النجباء والنبغاء والعلماء في دنياهم وأعمالهم كما في آخرتهم. وهذا دون ريب ما لا يريده ذلك الطرف الذي يسعى لبث الفتنة والفجور والشذوذ والانحلال الأخلاقي في المجتمعات العربية الإسلامية ومنها بلادنا تونس.

ذلك بالضبط ما عمل عليه الاستعمار منذ البداية بل كانت أولى مهامه وأولوياته ضرب التعليم الديني وتحفيظ القرآن لأبناء الشعوب المحتلة ومنها بلادنا كي يسهل عليهم اجتثاث شخصية الفرد والتحكم به وبالتالي السيطرة على المجتمع. وهذا ما شهد به مختصون وباحثون في التاريخ والألسنية بل وخبراء في الأمم المتحدة، وهو ليس بجديد على الباحثين والواعين بالسياسات الاستعمارية وتاريخها المعاصر.

لذلك كان من أول مشاريع الاستعمار الفرنسي في تونس بعيد إمضاء اتفاقية الحماية هو إمضاء اتفاقية باردو التي بمقتضاها تحكمت الدولة الاستعمارية في الإدارة التونسية لتؤسس عام 1884 أي بعد سنتين فقط من انتصاب “حمايتها” في البلاد، مدرسة “عصرية” حسب ادعائهم، لتعليم التونسيين والفرنسيين وأبناء الجاليات الموجودة في تونس حينها العلوم الحديثة. وتم فيها تطبيق مشروع لوي ماشوال مدير التعليم العمومي وقتها “للهجنة اللغة العربية” بمعنى ضرب اللغة الفصحى وتدريسها باللهجة الدارجة والتشجيع على استعمالها في التعليم والإدارة وذلك لتسهيل تعامل الأجانب من ناحية وضرب هوية الشعب التونسي من ناحية أخرى.

وفي مقابل ذلك تم تصوير التعليم الديني الزيتوني والصادقي على أنه تعليم لا يتماشى مع الحداثة وروح العصر الجديد وذلك بالأساس لقطع أوصال انتماء التونسيين الحضاري لهويتهم العربية الإسلامية المتجذرة فيهم. وهو ما تم تحقيقه فعلا وللأسف، بصور وأشكال مختلفة. والأخطر من ذلك فقد تم إقناع بعض النخب بأن التعليم الديني بما فيه حفظ القرآن في المدارس القرآنية والكتاتيب إنما هو ضرب من التقليد و”التخلف” لا يخرّج غير “المؤدبين” وخطباء الجمعة. فخرجت لنا أجيال شبه منقطعة عن هويتها ودينها وهو ما لعب دورا مهما في نزوع هؤلاء إلى التطرف والعنف واتخاذه أسلوبا في التعبير عن سخطهم من الدولة والمجتمع  !!

ونسي أولائك أن جلّ، بل كل، الأعلام العربية والإسلامية الذين كانت لهم مساهمات كبرى في الحضارة الغربية قبل غيرها في شتى العلوم والمجالات وخاصة الطب والرياضيات، إنما كانوا من أبناء المدارس القرآنية والتعليم الديني وفيهم من كان من حملة القرآن وحفاظه واشتهر بعلمه وحدة ذكائه بين الأمصار. فالعلامة التونسي إبن خلدون كان من خريجي المدارس القرآنية والتعليم الديني، والطبيب العالم  إبن الجزار كذلك وغيرهما كثير في بلادنا من الذين ملأت علومهم كتب العرب والغرب..

فقبل قرون قليلة ماضية كان الغرب ومنهم الفرنسيون يتداوون في بلاد الإسلام وينهلون منها العلوم والقواعد المختلفة، حينها كانت بلاد المسلمين ومنها تونس بلد الزيتونة، تعلّم أبناءها القرآن قبل كل شيء وتخرجهم في سن السبع الأولى من مدارس وكتاتيب تحفيظ القرآن فتقوى ملكة تفكيرهم واستيعابهم باقي العلوم الدنيوية. ولكن جهلة التاريخ لا يمكن لهم اليوم أن يحدثون إلا بالكذب والزور.

عاد الحديث في تونس مؤخرا عن المدارس القرآنية وكشرت بعض الجهات المتطرفة أنيابها لتعلن الحرب على هذه المدارس بعد وقوع مخالفة وحادثة مؤسفة في إحدى المدارس القرآنية بجهة الرقاب، وإن كانت خطيرة إلا أنها وقعت كثيرا ومازالت تقع في عديد المدارس والروضات المخصصة للأطفال وغيرها. ولا ينبغي أن يتم توظيفها والزيادة عليها بكم كبير من الإشاعات من قبل بعض “المعتوهين” إعلاميا، لتشكيل ضغط الغاية منه فقط شن حملة على كل المدارس الأخرى وتعميم نفس الاتهامات والأحكام المسبقة والمسقطة عليها من قبل قلّة تحمل في قلوبها حقدا دفينا لكل ماهو إسلامي في البلاد بسبب إيديولوجيتهم العلمانية المتطرفة التي تكره الدين وتعمل على إذلاله وإبعاده وملء مكانه بسلوكات الشذوذ والانحلال والتفسخ الأخلاقي والخلقي.

وبعيدا عن كل البذاءات والسخافات التي تفوه بها بعض الإعلاميين والمحللين والسياسيين الحاقدين الذين يريدون خلط الحابل بالنابل لغايات فكرية شخصية أو لدوافع سياسيّة أو ارتباطات خارجيّة، فإنّ المدارس القرآنية في تونس والكتاتيب باقية راسخة وكذلك حرص الغالبية من التونسيين على تحصين أبنائهم ضد فساد القلّة المغتربة من خريجي حانات الاستعمار الفرنسي، وتعليمهم القرآن في نعومة أظفارهم وعلومه المختلفة التي تجعلهم في كامل الاستعداد لأخذ كل العلوم الأخرى، وقد تشبعت أنفسهم بروح الدين والقرآن واطمأنت أن تضللها أفكار الشذوذ التي تسوقها جمعيات وقنوات في البلاد سمحت لها بذلك الدولة ذاتها التي تشدد الخناق على المدارس القرآنية بضغوطات مغلوطة وحجج واهية كالتصدي للتطرف والإرهاب.

ففي تونس يحفّظ القرآن منذ عقود وقرون ولم يكن هناك إرهاب إلاّ بعدما بدأ نفوذ المستعمر الفرنسي وعملائه في الداخل، بالتراجع والتلاشي بعد ثورة الكرامة منذ 2011. فواضح جدا مصدر الإرهاب والفساد ومصدر محاربة القرآن وأهله. فقط يلزمنا بعض الوعي والتفكير والنظر في تاريخنا القريب..

لو يحدثنا هؤلاء الإعلاميين والسياسيين عن واقع المدارس العمومية اليوم وما يحصل فيها من فساد أخلاقي كانتشار المخدرات بين التلاميذ في الإعداديات قبل المعاهد الثانوية، ومن تراجع في مستوى قيمة الدرس ومكانة العلم والتعليم وسوء الإدارة والتنظيم وقلّة الإمكانيات وحالة بعض المدارس في الجهات وغيرها من الضروريات التي قد تصلح القليل من الفساد الكثير المستشري.. لو يحدثونا عن انتشار الجريمة ويشنون حولها الحملات من أجل دفع السلطات المختلفة للقضاء نهائيا عن هذه الظواهر الخطيرة والآفات التي تهدد مجتمعنا الصغير قبل الكبير.. لو يحثوننا عن الفساد المتزايد يوما بعد يوم رغم الحرب المزعومة عليه من قبل رئيس الحكومة.. لو يحدثونا عن أخطاء السياسيين أو حقوق المواطنين أو عن الأسعار المتزايدة يوما بعد يوم في صمت.. لو يحدثونا التجارة بالمرأة وقضاياها وبالأطفال وإجبارهم على العمل بعد الانقطاع عن الدراسة، عن المعينات المنزليات اللاتي يُبعن في سوق للنخاسة لأثرياء القوم، عن أخلاقيات الإعلام وأهله في التثبت من الأخبار قبل بث الإشاعات وخطابات الكراهية والفرقة..

وغيرها من القضايا التي إن حدثنا عنها أحدهم يوما يمر عليها مرور الكرام وكأنها من الصغائر.. ناهيك عن التحدث ولو بنقد بسيط لحفل الشواذ الذي أقيم مؤخرا في أحد النزل بحماية البوليس ورعاية السفارات الأجنبية وتمويلهم وتحت أعين الدولة التي يبدو أنها لا حول لها ولا قوة إلا على ضعفاء القوم وأهل القرآن والالتزام ..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

همزة: تونس مُفردة في محل جرّ.. بفعل فاعل مبني للمجهول..

تونس – السفير – ظافر بالطيبي يقول اللغويون أنّ الحال دائما ما يكون منصوبا، إلا…