YOUR EXISTING AD GOES HERE

تونس – السفير
بقلم: صالح عطية (إعلامي تونسي)
يتداول الرأي العام في تونس بكثير من الاستهجان والغضب، موضوع الشبان الخمسة الذين نالت منهم أيادي التعذيب في أقبية ما يسمى
بـ “الوحدة الوطنية لمكافحة الإرهاب” بالعاصمة، بتهمة التورط في الإرهاب..
لم يكن تعذيب هؤلاء بسيطا، فقد كشفت تقارير طبية جدية، أن الخمسة عذّبوا عذابا شديدا، بلغ حدّ إطفاء السجائر في جسم أحدهم (بحجم 25 جرحا في مختلف أنحاء جسمه..)، وحصول جروح وخدوش في ساق الثاني وآثار انتفاخ في مستوى الكاحل السفلي للرجل، وتوقفت التقارير الطبية عند التواء في ركبة أحدهم مع زرقة في اللحم تحت تأثير التعذيب الشديد، ويتحدث المحامون عن استخدام الآليات القديمة في التعذيب زمن الاستبداد، خاصة الغطس في المياه الآسنة، والتعليق على نمط الدجاجة المصلية، والحرمان من النوم إلى حدّ التأثير على نظام القلب والشرايين فضلا عن نفسية الموقوفين..
لم يراع الجلادون المناخ السياسي والحقوقي الجديد في البلاد، ولا الثورة التي قامت على أنقاض آلة الاستبداد والتعذيب والتنكيل بالتونسيين، ولا حتى أصوات المسؤولين الأمنيين الذين نادوا بـ “الأمن الجمهوري”، ولا كذلك دعوات السياسيين لجعل الأمن حاميا للمواطنين وليس آلة لتعذيبهم والتفنن في ذلك..
صحيح أن التعذيب لم يتوقف منذ الثورة إلى الآن، لكن هذا المستوى من البشاعة في النيل من الموقوفين والمتهمين، غير مسبوق كما تقول تقارير الحقوقيين..
القضاء وانكشاف الجريمة
لقد استغل الجلادون التوتر الحاصل في الخطاب الإعلامي والسياسي والأمني المتعلق بقضايا الإرهاب، وسارعوا إلى استئناف الطرق القديمة في التعذيب الممنهج، ظنا منهم أن الملف سيغلق بمجرد مرور هؤلاء على القضاء الذي سيضعهم في السجن فتموت معهم جريمة التعذيب، غير أن القضاة الذين عاينوا تلك الأجسام الزرقاء المنتفخة والمجروحة والدامية، أيقنوا تحت تأكيد المتهمين الخمسة، أن التهم الموجهة إليهم من قبل الجهات الأمنية، انتزعت منهم تحت التعذيب، فأخلوا سبيلهم لانتفاء الأدلة والقرائن التي يمكن أن تؤكد مثل هذه التهم..
ورغم أن جهات أمنية اختطفت هؤلاء من أمام المحكمة وحاولت إلصاق تهم جديدة بهم، من أجل أن تمر قضية التعذيب بمرور آثارها مع الزمن، إلا أن القضاء برأهم مرة أخرى وأخلى سبيلهم، ما جعل قضية التعذيب تطفو مجددا على سطح الأحداث السياسية والحقوقية، خصوصا في القنوات التلفزية وعلى شبكة التواصل الاجتماعي، أين تم نشر التقارير الطبية بكامل التفاصيل، أمام محاولة السلط الأمنية نفي عمليات التعذيب والتقليل من شأنه..
شكلت هذه الحادثة مصدر تخوف إضافي للتونسيين على عودة جهاز التعذيب إلى سطوته السابقة زمن النظام القديم، الذي زجّ خلاله بآلاف التونسيين في السجون بتهم كيدية تلفق للموقوفين، وتنتزع توقيعاتهم تحت التعذيب عنوة، ما أدى إلى خراب بيوت وعائلات، وضياع كفاءات وطنية لم تستفد منها البلاد ولا المجموعة الوطنية التي أنفقت على تعليمهم الشيء الكثير..
اللافت للنظر في هذا السياق، صمت الكثير من السياسيين ممن كانوا عرضة لمثل هذه الممارسات طوال عقود من الزمن، سواء في الحكم أو في هذه “المعارضة الناعمة” التي لم يعد لها حول ولا قوة سوى إصدار البيانات وقليل من التصريحات النقدية الباردة..
طوق النجاة
تعذيب هؤلاء الموقوفين لا يطرح أسئلة حول التعذيب وسنواته المرّة في تونس منذ بداية تشكّل “الدولة الوطنية” في ستينات القرن المنقضي فحسب، ولا يجعل المنظومة الأمنية محل مساءلة قانونية فقط، بل إنه يطرح موضوع مكافحة الإرهاب على محكّ النقد والتساؤل :
فهل التعذيب هو المدخل لمكافحة الإرهاب ؟ وهل يمكن لمواجهة الإرهابيين أن تتم بمثل هذه السطوة الأمنية بما تعنيه من اختلاق أبحاث وتوقيعات مفبركة وتهم ملفقة سرعان ما يتبيّن تهافتها أمام القضاء؟ وهل ستدع الدولة الجلادين يفلتون من العقاب مثلما أفلتوا منه طيلة ستة عقود من “دولة الاستقلال”؟ وإلى أي مدى سيتواصل صمت النخبة والطبقة السياسية والحقوقيين، رغم هبّة البعض القليل منهم؟ هل يمكن لتونس اليوم أن ترضى بعودة التعذيب بعد ثورة اجتماعية وسياسية كان شعارها ومادتها الأساسية، كرامة المواطن التونسي؟ وأخيرا وليس آخرا، أية مصداقية للسلطة الحاكمة في مكافحتها للإرهاب، أمام تهافت التهم الملفقة، واعترافات التعذيب لمتهمين لا علاقة لهم بهذا “الإرهاب”؟
الخمسة المعذّبون هؤلاء، يمثّلون اليوم طوق نجاة التونسيين من آفة التعذيب، ولكن أيضا وأساسا من استمرار المقاربة الأمنية السلطوية، وبقاء المؤسسة الأمنية من دون إصلاح يحوّلها إلى أفق الأمن الجمهوري، الذي يدافع عن الوطن ومواطنيه بمنطق القانون، وكرامة المواطن وفلسفة حقوق الإنسان..
المسؤولية ملقاة اليوم على عاتق السياسيين في الحكم قبل المعارضة، وعلى المجتمع المدني بجميع مكوناته، فعودة التعذيب إلى مخافر الشرطة، ضوء أحمر، يعني فيما يعنيه أن ثورة يناير 2011، قد دفنت ولم يبق سوى تلاوة فاتحة القرآن الكريم عليها.. فالدولة التي لا تحمي مواطنيها من أجهزتها، تكون معرضة لأي انفلات حتى وإن كان ثورة اجتماعية قاعدتها هذه المرة ليسو الجياع فحسب، إنما المضطهدون والمعذّبون في الدوائر الأمنية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

رأي/ غزة.. وكنت من الواهمين أيضا..

تونس – السفير – بقلم العيد القماطي كنت من الواهمين، في أنصار لهيب غزّة، أن يتص…