YOUR EXISTING AD GOES HERE

تونس – السفير الثقافي
يحلو السفر (1): بقلم منجي الفرحاني
كنّا نمشي في أحد أزقّة البندقيّة الضيّقة..
المدينة الرّومنسيّة العائمة التي قُدّت شوارعها وأنهجها من ماء البحر و التي تربط بينها شبكة جسور جميلة تبوح خيوط الشّمس وهي تراقصها عند كلّ شروق وغروب وما بينهما بحكايات من مرّوا وآثارهم وتعبث بما علق عليها من أفئدة العاشقين..
كان ذلك في يوم من أيّام سبتمبر في منتصف تسعينات القرن الماضي..
كان الطّقس ممطرا يميل إلى البرودة و كان يرافقني صديقي السينيغاليّ عمر وهو كعادته يتحدّث عن نفاق أهل المدينة وعنصريّتهم المقيتة ويتساءل متى تستفيق القارّة السّمراء و تنتقم لشرفها..
13880304_219331315131171_3798665536231052980_n
– يا صديقي.. هي مدينة ككلّ المدن.. فيها أصحاب القلوب وفيها من أفئدتهم خاوية على عروشها..
– مستعمرون.. أوغاد.. قتلة.. أنا لا أثق فيما تحمله شفاههم من معسول كلام الإنسانيّة ولا في ابتساماتهم الصّفراء وهم يتصنّعون تعايشا وهميّا.. نحن في عيونهم “الآخر”.. الآخر المختلف المتخلّف وهذا دليل آخر يدين خبث نواياهم…
لا تكن ساذجا يا صديقي.. اقرأ ما في عيونهم من مكر القرون.. هم أزاحوا قيود العبوديّة من معاصمنا ليقيّدوا بها إرادتنا في أن نكون بشرا.. أنا أتبوّل على نواياهم القذرة…
– أنا مثلك يا صديقي لن أغفر لهم استعمارنا ولا تقسيمنا ولا قتل أجدادنا ولا تكبيل إرادتنا..
لكنّنا رضينا يا صديقي بواقع صنعوه على مقاسنا و نمنا فمتى نريد؟
أنا أريد.. أنت تريد.. هو يريد.. هي تريد.. نحن نريد.. الشّعب يريد ثمّ الله يريد…
– سأظلّ أكرههم.. هذا ما أريد..
– يا صديقي لا تفسد علينا جمال المدينة وناسها الطيّبون.. كلّنا في النّهاية بشر.. كلّنا من آدم وآدم من تراب..
– لن يقبلوا بآدم أسود مثلي أو أسمر مثلك.. عنصريّون.. ثمّ لا تقلّي طيّبون.. من أين لهم ذلك؟
لم أشأ أن أحدّث عمر عن حادثة البارحة مع أحد أعوان البوليس عندما كنت جالسا على مدارج أحد الجسور مع رفيقتي الألمانيّة التي كنت اصطدتها للتوّ.. فأنا لازلت لم أعمّم كرهي لهذا الجهاز في مشارق الأرض و مغاربها…
قد يقتلك أو يسجنك على لون بشرتك في أمريكا أو على رأيك في بلاد العرب أو على مالك أو جاهك أو فقرك أو حتّى سوء طالعك في بلدان أخرى.. صدق من قال إنّهم كلاب.. أنا كما أسلفت لازلت لم أعمّم…
وقف غير بعيد وسألني عن هويّتي.. ليست المرّة الأولى ولا أظنّها الأخيرة…
لم يسأل رفيقتي الشّقراء الألمانيّة عن هويّتها..
أراد أن يظهرني مشبوها فيه أمامها ولكنّها فهمت اللّعبة..
تسلّمت منه بطاقة الهويّة.. وضعتها في صدرها وقبّلتني بحرارة فأدار وجهه وغادر مهزوما منكسرا…
عمر.. عمر.. حذاري.. أفق يا صديقي…
اصطدم عمر بعجوز تحمل قفّة فسقطت من يدها وتناثر ما فيها من خضر وغلال على الرّصيف المبلّل بزخّات المطر واختلط بصراخها الهستيريّ الذي سرعان ما تحوّل إلى سباب تفوح منه رائحة العنصريّة القذرة:
سود.. عرب.. بربريّون.. مغاربة قذرون.. كلاب.. عودوا إلى بلدانكم.. لا حاجة لنا لأوساخكم.. عودوا من حيث أتيتم… أوغاد…
كنّا في الأثناء نجمع ما تناثر من القفّة.. لم نجبها.. سلّمناها القفّة وسط دهشة المارّة وأكملنا طريقنا…
– من فضلك يا عمر لا تقلّي أسمعت.. أرأيت.. ولا أنّ كلامك عنهم صحيحا إلخ… أرجوك لا تقل شيئا.. دعني الآن…
لم ينبس المسكين ببنت شفة…
بعد دقائق معدودات وصلنا إلى مقصدنا ولكنّنا لم نعرف مدخل العمارة أين يقطن زميلنا..
سألت عجوزا في شرفة تقابلنا عن المدخل المنشود رغم اعتراض عمر وخوفه من ردّة فعلها..
– لا تسأل إنّها عجوز.. اتّعظ ممّا حصل لنا قبل قليل من مثيلتها.. أرجوك…
كانت العجوز لطيفة جدّا معنا.. نزلت فورا.. أخذتنا إلى مقصدنا.. دعتنا للغداء في بيتها.. طلبت منّا أن نعتبرها أمّا لنا في ظلّ بعدنا عن أمّهاتنا.. قالت إنّنا مصدر ثراء للمدينة بما نحمله من دفء جئنا به من قارّتنا السّمراء…
– يا صديقي.. هي مدينة ككلّ المدن.. فيها أصحاب القلوب وفيها من أفئدتهم خاوية على عروشها…
ضحك عمر.. قبّلنا رأس العجوز الطيّبة واختفينا من جديد في الزّقاق…
زميلنا الطّالب الذي جئنا نبحث عنه لم يكن هناك…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

لطفي العبدلي يكشف فحوى تدخل وزارة الداخلية في عروضه المقبلة !

تونس – السفير أعلن الممثل لطفي العبدلي عبر فيديو على إنستغرام أنه قرر التراجع عن قرا…