YOUR EXISTING AD GOES HERE

تونس – السفير الدولي
منذ أن أعلن أبو محمد الجولاني عن تأسيس جبهة النصرة في سوريا عام 2012، والجبهة تحاول أن تطرح نفسها كنموذج جديد ومختلف عن الجماعات الجهادية المعروفة، محاولةً التموضع في الوسط بين تنظيم الدولة وباقي الجماعات التي توصف بـ “المعتدلة”؛ فعملت النصرة على التركيز على كسب الحاضنة الشعبية، والعمل القُطري المحلي بعيدًا عن عالمية التيار الجهادي ورسم صورة إيجابية لدى الناس عن هذا الكيان الجديد.
وبالفعل، نجحت النصرة في ذلك في بداية الأمر؛ حيث تصدرت عناوين الأخبار في وقتها من خلال العمليات النوعية التي نفذتها، وازدادت شعبيتها جدًا بعد سيطرتها على بعض المناطق نتيجة التعامل الطيب الذي عُرف به مقاتلوها مقارنة مع فصائل الجيش الحر.
لم يكن خفيًا انتماء النصرة للتيار الجهادي العالمي؛ ولذلك وضعتها الولايات المتحدة في قائمة الإرهاب حتى قبل أن تعلن ارتباطها بتنظيم القاعدة.
ثم جاء إعلان أبي بكر البغدادي عن ضم جبهة النصرة إلى “دولة العراق الإسلامية” وقيام ما عُرف بـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام” في 9 / 4/ 2013؛ ليشكل نقطة تحول كبيرة للنصرة، حيث رفض أميرها الجولاني هذا الإعلان وأعلن بيعته لتنظيم القاعدة الأم، لتدخل النصرة مرحلة الصدام مع تنظيم الدولة.
لم يكن الخلاف بين النصرة والدولة عقائديًا ولا منهجيًا على الإطلاق، بدليل أن قادة النصرة كانوا جنودًا في تنظيم الدولة في العراق، وحين سُئل الجولاني في لقائه على قناة الجزيرة عن الخلاف بينهم وبين تنظيم الدولة، وصفه بأنه خلاف بين الإخوة في البيت الواحد، وأعتقد أن وصف الجولاني كان دقيقًا جدًا؛ فتنظيم الدولة وجبهة النصرة كلاهما ينتمي لنفس التيار، وكلاهما تخرّج من نفس المدرسة.
لكن، هذا الخلاف بدأ يتطور شيئًا فشيئًا وتصاعدت وتيرته وعملت بعض الأطراف المستفيدة على تأجيج هذا الصراع، حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم.
وبعد صدامها مع تنظيم الدولة، أخذت النصرة تسير في الخط المعاكس لسير تنظيم الدولة في تعاملها مع الفصائل الأخرى؛ فأوغلت في التقرب من هذه الفصائل في محاولة منها للتميز بهوية خاصة بها تنفرد بها عن تنظيم الدولة أو حتى عن التيار الجهادي العالمي، لكن عداوتها لتنظيم الدولة جعلتها تتنازل عن بعض الثوابت “القاعدية” شيئًا فشيئًا؛ فحاولت تجنب الصدام مع جميع الفصائل السورية حتى المعروفة بارتباطها بالخارج أو المعروفة بعلمانيتها، وقبلت بالشراكة مع هذه الفصائل في المناطق التي تسيطر عليها، في خطوة تعتبر سابقة في أداء تنظيم القاعدة، مع أن قوتها لا تقارن أبدًا بقوة تلك الفصائل الضعيفة؛ حيث اعتقدت النصرة أن هذا سيصب في مصلحتها في النهاية.
وبالرغم من التنازلات التي قدمتها النصرة، بقي الجميع ينظر إليها على أنها من القاعدة، ويتعامل معها على هذا الأساس ويعتبرها عدوًا مؤجلًا يأتي دوره بعد تنظيم الدولة؛ ولذلك شنوا عليها حملة تشويه منظمة، وحاولوا تأليب الشارع السوري ضدها، ونجحوا في بعض ذلك؛ حيث خرجت المظاهرات في عدد من المدن السورية تطالب بخروج النصرة من تلك المدن.
استمرت النصرة في محاولة التموضع في الوسط بين تنظيم الدولة وبين الجماعات العلمانية أو جماعات الإسلام “العلماني” أو السياسي المرتبطة بالخارج، فلم تصرح بتكفير هذه الجماعات ولم تحاول استعداءهم، رغم أن أيديولوجية القاعدة تقوم على تكفير هذه الفئات التي تخلط بين المناهج العلمانية والمنهج الإسلامي، وبقيت النصرة مترنحة فلا هي محسوبة على تنظيم الدولة ولا هي محسوبة على الفصائل “المعتدلة”.
لكن، بعض الفصائل السورية وبأوامر من الخارج حاولت استغلال الوضع المترنح للنصرة، وتصورت أنها فرصة سانحة للتخلص من الجبهة؛ فتحرك جمال معروف وأعلن الحرب على النصرة، لكنه تفاجأ بما لم يكن في حساباته؛ حيث بطشت به النصرة خلال أيام وأنهت وجوده للأبد.
ثم أعادت حركة حزم المعروفة بارتباطها بالولايات المتحدة نفس الكرَّة مع جبهة النصرة؛ فألحقتها الجبهة بجمال معروف وأنهتها هي الأخرى.
بعد ذلك، أيقنت أجهزة المخابرات العالمية أن القضاء على جبهة النصرة عسكريًا أمر غير ممكن؛ ولذلك قررت تجربة أمر آخر، وهو جرّ النصرة إلى تحالفات مع الفصائل الإسلامية المرتبطة بالخارج، ومن ثم محاولة تجريدها من هويتها القاعدية شيئًا فشيئًا، مستغلين اشتداد الصراع بين النصرة وتنظيم الدولة.
وبالفعل، دخلت النصرة في تحالفات عديدة وفي أكثر من منطقة، وكان آخر هذه التحالفات وأبرزها ما عُرف بـ “جيش الفتح”.
تمكن جيش الفتح وبعد تأسيسه مباشرة من اقتحام إدلب وطرد قوات النظام منها، ولم يكن خافيًا على أي متابع أن جبهة النصرة هي من تحملت عبء المعركة؛ بدليل أن معظم “الانغماسيين” الذين يعتبرون عامل الحسم في المعركة إن لم يكونوا جميعهم، هم من النصرة.
والملفت للانتباه فيما يتعلق بجيش الفتح، ما ذكره بعض المتخصصين والمتابعين للشأن السوري من أن جميع فصائل جيش الفتح ومن ضمنها النصرة حصلت على دعم عسكري من الخارج، وإن كان البعض أنكر هذا الأمر، لكن يبدو أن هذا قد حصل فعلًا، وأن النصرة تلقت دعمًا ولو بشكل غير مباشر، وهذه قضية يجب التوقف عندها؛ فهذه تعتبر المرة الأولى في تاريخ تنظيم القاعدة التي يتلقى التنظيم فيها دعمًا من الخارج، حيث ذكر الدكتور عبد الله النفيسي، أستاذ العلوم السياسية، في إحدى محاضراته أن تنظيم القاعدة هو الوحيد من بين كل الجماعات والأحزاب السياسية في العالم، الإسلامية وغير الإسلامية، الذي لا يتلقى دعمًا من أطراف دولية أو إقليمية. إن قبول النصرة بهذا الدعم يعتبر خروجًا على منهج التنظيم، وتحولًا ملفتًا في أدائها على الأرض.
ويوجه جهاديون مقربون من الدولة الإسلامية انتقادات للجولاني ويعتبرونه محدود الخبرة في إدارة الصراع ، ويضيف أحدهم معلقًا: “على الرغم من أنه واكب العمل المسلح في العراق قبل ذلك، لكن معظم مدة بقائه في العراق قضاها في السجن، ولم يعش التجربة العراقية بكامل تفاصيلها على خلاف البغدادي وقادة الدولة الذين دخلوا سوريا وهم يحملون تجربة كاملة وصورة واضحة لكيفية التعامل مع الجميع، الجماعات المسلحة – العشائر – الأحزاب السياسية وغيرها”، وفق أيديولوجية تنظيم الدولة طبعًا؛ حيث اصطدم تنظيم الدولة منذ البداية بجمال معروف وحزم والجيش الحر، في حين احتاجت النصرة إلى ثلاث سنوات لتدرك أنه لا مناص لها من قتال هؤلاء إذا أرادت الاستمرار بمشروعها.
ويتخوف بعض الجهاديين من سرقة تضحياتهم، ويقولون في نقاشاتهم الداخلية إن التاريخ مليء بالتجارب التي استخدم فيها الإسلاميون من قبل خصومهم وأعدائهم، وأدخلوهم في تحالفات مشابهة لما دخلت فيه النصرة اليوم، واتخذوهم مطية للوصول إلى أهدافهم وصعدوا على أكتافهم ثم انتقموا منهم شر انتقام، كما فعل محمد علي جناح في باكستان حين أعلن عن تمسكه بتأسيس دولة إسلامية وما إن أصبح رئيسًا لباكستان حتى انقلب على الإسلاميين وتنكر لوعوده، وأسس دولة باكستان بعيدًا عن رغبات الإسلاميين.
وكما فعل لينين إبان الثورة البلشفية في روسيا، حين استحث العثمانيين للقتال معه ضد القياصرة ثم قلب لهم ظهر المجن، وكذلك فعل خليفته ستالين حين خدع القيادات الدينية الإسلامية وكثيرًا من عوام المسلمين ليشتركوا معه في الحرب العالمية الثانية، وما إن انتهت الحرب حتى نفذ عمليات إبادة ضد المسلمين وقتل 20 مليون مسلم، وكما فعل عبد الناصر مع الإخوان المسلمين في ثورة يوليو 1952.
وبالعودة إلى معركة إدلب والانتقادات الكبيرة التي تعرضت لها النصرة؛ لأنها رفعت رايتها في المناطق التي حررتها ولم ترفع علم “الثورة”، وهذا يعني أن القوى التي دعمت المعركة لم تقتنع بتنازلات النصرة وراحت تتطلع إلى المزيد منها؛ فالأمر لم يكن متعلقًا بالراية أو العلم مطلقًا، ومن يراقب الإعلام العربي هذه الأيام يلاحظ أن هناك نوعًا من التغزل في جبهة النصرة أحيانًا وانتقادها أحيانًا أخرى، وكأنها رسالة للنصرة أنكِ إما أن تنضمي للفصائل “المعتدلة” فتسمعين ألوانًا من الغزل؛ وإلا فالتشويه جاهز أيضًا.
جبهة النصرة لن تستطيع الاستمرار طويلًا في محاولاتها التموضع في الوسط مهما تنازلت؛ فالفصائل المرتبطة بالخارج لن تقبل بهذا من النصرة، سواءً كانت الفصائل العلمانية أو فصائل الإسلام السياسي، وعلى رأسها حركة أحرار الشام ذات التوجهات الإخوانية، والحديث الأخير عن فك ارتباط النصرة بالقاعدة؛ لكي تندمج مع الفصائل الشامية خير دليل على هذا الكلام.
وبالتالي؛ ستجد الجبهة نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن تقبل بالتخلي عن منهج القاعدة بالكامل وتخفض سقف أهدافها، أو الانحياز لتنظيم الدولة.
المتابع لجبهة النصرة، يدرك أنها تتكون من تيارات غير متجانسة في الرؤيا وحتى في الأهداف؛ فالتيار الذي يقوده أبو مارية الجبوري مثلًا مختلف تمامًا عن التيار الذي يحمل توجهات أبي مالك القلموني، وكلاهما يختلف عن تيار الجولاني نفسه، وقد بدا هذا التباين واضحًا داخل النصرة في أكثر من مناسبة، خاصة في الموقف من تنظيم الدولة وفي ردة الفعل على موضوع فك الارتباط بالقاعدة.
وفي المحصلة، وبناءً على ما ذكرناه؛ نتوقع أن النصرة ستتفكك قريبًا إلى ثلاثة تيارات؛ التيار الأكبر سيتوجه نحو تنظيم الدولة خصوصًا بعد أفول شمس القاعدة على مستوى العالم وانتزاع تنظيم الدولة عصا قيادة التيار الجهادي العالمي منها، وتيار آخر سيدخل في تحالفات مع أحرار الشام وغيرها، وتيار سيعتزل الصراع أو ربما ينضم إلى الفصائل الجهادية الصغيرة الموجودة في بعض المناطق السورية؛ لأن استمالة التيار الذي يقوده أبو مارية الجبوري من بعض الدول ممكن، في حين أن استمالة التيار الذي يحمل توجه أبي مالك القلموني أمر مستحيل.
وفي جميع الأحوال، فإن تلك الجماعة التي قدمت الكثير لأهل الشام والتي كسبت قلوب الكثير من أبناء الأمة، باتت أيامها معدودة؛ لأنها بمحاولتها التموضع في الوسط فقدت هويتها وخسرت الجميع، وسيصبح حالها كما يقول المثل العراقي: “لا حظت برجيلها، ولا خذت سيد علي”.
المصدر: التقرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

معارك غزة.. فرق نفسية لمواجهة الميول الانتحارية لدى الجنود الإسرائيليين

السفير – وكالات أكدت صحيفة يديعوت أحرونوت أن قسم التأهيل في جيش الاحتلال الإسرائيلي …