YOUR EXISTING AD GOES HERE

تونس – السفير – ظافر بالطيبي

تمرّ بنا اليوم الذكرى الثامنة للثورة التونسية التي رفعت بالأساس شعارات الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة، ولكن الظرفية السياسيّة اليوم رغم التداول السلمي على السلطة في البلاد في 2014، لا تنبئ بالكثير من الخير والتفاؤل.

فالمشهد السياسي اليوم بات على درجة من التوتر والتقعيد ما لم يبلغه يوما منذ 2011، حيث أصبحنا إزاء حلبة صراع حقيقيّة لأطراف سياسية وحزبية في الحكم متحالفة مع جهات أخرى في المعارضة وهو ما لم تعهده البلاد من قبل وإن كان مثل هذه المشاهد يمكن أن تكون عاديّة في ظل الديمقراطيات الناشئة لاسيما في البلادان التي شهدت نغييرات جوهرية على مستوى نظام الحكم على غرار تونس ودستورها الجديد.

فلأول مرة تدخل مؤسسة رئاسة الجمهورية في جدال وصل إلى حد “صراع” علني مع رئاسة الحكومة، وهو صراع جاء ليتوّج فترة سنوات من الخلافات والصراعات داخل الحزب الحاكم “نداء تونس” الذي تهاوى منذ وصوله للحكم سنة 2014 بسبب المطامح والمطامع الكبيرة لعدد مهم من قياداته على رأسهم نجل الرئيس حافظ قائد السبسي الذي لم يعد يخفي اليوم تكالبه الغير مسبوق على السلطة والاستفراد بالرأي والحكم له أو لوالده.

فقد تحلل حزب النداء منذ البداية وتفرعت عنه بعض الأحزاب الأخرى وكان أولها حزب مشروع تونس لرئيسه محسن مرزوق الذي استقال مبكرا من الحزب الحاكم بسبب ما قال أنه نيّة الرئيس الحالي توريث الحكم لإبنه وسعي الإبن لذلك في السر والعلن متحديا القيادات الكبرى للحزب المذكور رغم حداثة عهده بالسياسة وعدم تضلعه في المراس السياسي إلاّ أنه بات يستعمل نفوذه كإبن للرئيس للوصول إلى مناصب قيادية والتفرد بقيادة الحكم تمهيدا للترشح للرئاسية 2019.. حسب ادعاءات الكثير من المستقيلين منهم رضا بلحاج قبل عودته للحظيرة الرئاسية والأزهر العكرمي وغيرهم وآخرهم رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد الذي أعلن في كلمة له في القناة الرسمية أن هناك خلافا بينه وبين إبن الرئيس الذي يضغط من أجل إقالة الحكومة ورئيسها وأنه هو سبب انقسام الحزب وتشتته، ثم في حواره الأخير على قناة خاصة حيث قال أن حافظ قائد السبسي يعبث بالبلاد ويتصرف وكأنها ملك شخصي له وهو محل خلافه معه.

في الأثناء وبعد رفض حركة النهضة اللعب بقرارات الدولة المصيرية وإقالة الحكومة ورئيسها يوسف الشاهد دون أسباب موضوعيّة والحفاظ على مصلحة الدولة العليا وبالتالي عدم التوقيع على وثيقة قرطاج 2 التي تقودها كمبادرة سياسية رئاسة الجمهورية من خلفها “عائلة الرئيس” وإبنه حافظ حسب متابعين، أصبحت هي الأخرى (حركة النهضة) في دائرة “نيران” رئاسة الجمهورية الصديقة وبدأت سلسلة جديدة من التصريحات والأحداث تتوالى وتتصاعد من هنا وهناك لمزيد تشويه المشهد السياسي في ظل الصراع العلني بين الرئاستين والذي باتت رحاه تدور في أكثر من حزب وأكثر من مؤسسة سيادية على رأسها البرلمان الذي شهد عديد الجلسات الساخنة والمصيرية والخطابات النارية من هنا وهناك لصالح هذا أو ذاك.. 

النهضة.. وحكاية “الجهاز السري” و”الغرفة السوداء”

دخلت حركة النهضة فجأة الدائرة الحمراء للرئيس الباجي قائد السبسي بعد تمكسها بالحكومة وعدم موافقتها على إقالتها في البرلمان، وتحولت من حليف استراتيجي لحزب النداء وأحد شعارات التوافق الوطني إلى حزب معاد لرئاسة الجمهورية وحزب السبسي المفتت والمتهاوي. وزادة هذه الوضعية الجديدة حدّة وقوّة بعد الفوز الساحق لحركة النهضة في الانتخابات البلدية حيث أصبحت بوادر الخلاف والاستفزاز تظهر وتتفاقم يوما بعد يوم. لاسيما بعد التطاول غير المسبوق لنجل الرئيس على رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي وتمسك الحركة بموقفها من الحكومة ورئيسها في عديد المناسبات رغم بعض “الإغراءات” والمقايضات..

وفي خضمّ هذه الحالة الجديدة بين حزبي التوافق الفاشل عادت مجددا ما سمي بلجنة أو هيئة الدفاع عن الشهيدين (بلعيد والبراهمي) بملفات جديدة مسرّبة من إدارات الدولة عما قالت أنها معطيات جديدة عن تحوز حركة النهضة على جهاز سريّ يعمل في الخفاء ويستهدف الدولة وغرفة سوداء بوزارة الداخلية تخفي فيها أرشيفا قد يورطها في قضايا الاغتيالات وخلافه.. وبغض النظر عن جديّة ما تطرحه هذه اللجنة التي يعرف معظم أطرافها بتوجهاتهم السياسية الراديكالية وقربها من الجبهة الشعبية وأحزابها اليسارية والقومية، فإن توقيت ظهورها ونوعية الملفات والتسريبات التي نشرتها لا يمكن أن تكون إلا بإيعاز من طرف نافذ في الحكم وله قنوات للوصول إلى وثائق وملفات داخل الإدارة لاسيما وزارة الداخليّة.

فليس الجديد في الأمر قضيّة أحد القريبين من حركة النهضة وهو مصطفى خضر وتحوزه على بعض الأرشيف الرسمي للدولة أو مخالفته للقانون عبر بعض النشاطات قبل سنوات حيث تم إيداعه السجن منذ 2013 أي قبل الانتخابات الأخيرة، بل الجديد في الأمر هو الخلاف الطارئ على العلاقة بين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي وما أفرزه من استقطاب ثنائي جديد بخلاف الخلاف السابق لرئاسة الجمهورية مع رئيس الحكومة الذي أصرّ أن يكون رئيس حكومة وفق القوانين لا وفق أوامر رئيس حزبه وإبنه حتى كلفه ذلك الخروج من نداء تونس ومزيد انقسام الحزب الحاكم بشكل بات انعكاسه واضحا على التشكيلة الحزبية والسياسية في المشهد التونسي ككل..

التحريض الإعلامي والسياسي

في ظل الوضع السياسي الجديد بعد الانتخابات البلدية وبعد تمسك النهضة بحقها في عدم إقالة حكومة دون مبررات مقنعة سوى شهوات ورغبات نجل الرئيس، عادت بعض وسائل الإعلام لعاداتها القديمة بعد فسحة لم تتجاوز السنتين لتعود مجددا للتحريض والمغالطة في الأخبار والتحليلات والضيوف، وعاد توظيف الاغتيال السياسي للفقيدين بلعيد والبراهمي في القنوات الإعلامية مع نشر وترويج تسريبات جديدة ومغالطة الرأي العام بخصوصها واتهام النهضة مجددا بالتورط فيها. وفي نفس الوقت باتت هذه المنابر الإعلامية (قنوات نسمة وتونسنا والحوار التونسي وبعض الصحف والإذاعات والمواقع الإلكترونية) منبرا لمهاجمة الحكومة والمتاجرة بالملفات الاجتماعية والاقتصادية دون الترويج للبدائل أو الحلول الممكنة وهو ما يعني أن هناك أطرافا عادت لاستعمال أبواق الدعاية واستغلال بعض المشاكل والأزمات إعلاميا لا لحلها بل فقط لاستهداف القائمين على معالجتها في الدولة وهي متاجرة سياسية رخيصة واستثمارا في مآسي الناس ومشاكل الدولة لا عملا على حلّها ومعالجتها حقيقة.

هذه الحرب الإعلامية القديمة الجديدة أعادت إلى العلن حرب التموقع واستغلال الوسائل الإعلامية للتوظيف والترويج لصالح أطراف معينة في الدولة فعاد الاستقطاب الإعلامي مجددا لصالح لوبيات السياسة وانت قناة تونسنا لصاحبها عبد الحميد بن عبد الله أكثر هذه القنوات تحريضا على الكراهية والانقسام واستغلالا للوضع الجديد من أجل تغليب طرف على الآخر او تشويه طرف معين وهو حركة النهضة دون حياد أو حتى أدنى معايير المهنية. وكذلك قناة نسمة لصاحبها نبيل القروي والمتموقع بدوره في صف رئيس الجمهورية ضد يوسف الشاهد لأسباب ذاتية وكذلك قناة الحوار التونسي الذي لعب بعض محلليها دورا أساسيا لترجيح الكفة لهذا الطرف او ذاك والعمل على مزيد “توريط” حركة النهضة في ملف مازال معقدا وغير مفهوم للعيان بسبب ضبابيته وعدم إلمام حتى هيئة الدفاع ومن ينشرونه بتفاصيله بسبب تقطع التسريبات التي تصلهم مواكبة لمسار التفاوض بين مختلف الفاعلين والمعنيين وربحا للوقت لتقييم مسار الخلافات بشكل عام وأين ستكون المصلحة والغلبة داخل حلبة صراع “الكبار” من أجل مصالح “الصغار”.

رئاسة الجمهوريّة و جماعة “السترات الحمراء”.. وحادثة القصرين

في تقليد بليد وغبي لجماعة السترات الصفراء في فرنسا التي استطاعت أن تلفت النظر إليها في احتجاجاتها ضد زيادات الأسعار في الدولة الأوروبيّة، واستغلالا للأحداث محليا، أعلنت بعض المجموعات الشبابية عن تأسيس مجموعة السترات الحمراء بتونس من أجل التصدي للزيادات في الأسعار وسياسة التهميش التي تنتهجها الحكومة.. ورغم أن الوجوه المشرفة على هذه المجموعة “مشبوهة” التمويل والخلفية، معروفة لدى الرأي العام والعارفين بالسياسة بتوجهاتها السياسية اليسارية الراديكالية (يتزعمها الناشط في تيار النقابيين الراديكاليين نجيب دزيري القريب من نبيل القروي صاحب قناة نسمة) لها ارتباط غير مجهول بأطراف سياسية في الحكم مثل حزب نداء تونس شق حافظ قائد السبسي (تسريب صورة جمعت نجيب دزيري ورضا بالحاج القيادي في نداء تونس بأحد الحانات في العاصمة)، وهو ما يعني أن هذه المجموعة (السترات الحمراء) غير بريئة وهناك طرف سياسي في الحكم وهو رئاسة الجمهورية ونداء تونس يحركها ويعمل على استغلالها وهو ما ظهر بالفعل بعد اتصال هاتفي جمع رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي برئيس الحملة “السترات الحمراء” نجيب دزيري لم ينكره هذا الأخير في حوار نلفزي قبل أيام على إحدى القنوات الخاصة.

رضا بالحاج القيادي في نداء تونس على اليمين بالأبيض ونجيب دزيري على اليسار بالسترة الحمراء

وفي خضمّ كل هذه الأحداث والتصعيدات من الأطراف المتصارعة على الاستئثار بالسلطة وفرض أحكامها على الدولة، وفي استنساخ فظيع لسيناريو البوعزيزي حدثت مأساة المصور الصحفي عبد الرزاق زرقي الذي تم إقناعه بافتعال سيناريو إحراق نفسه بساحة الشهداء في القصرين احتجاجا على الأوضاع المتردية للمنطقة والدعوة إلى ثورة ثانية وفي الأثناء وبعد أن سكب على نفسه البنزين باغته أحد الشباب من الخلف وأشعل النار به باستعمال ولاعة فاشتعل الشاب أمام عدسات الكاميرات في مشهد مريع ليتم اكتشاف الحقيقة بعد ساعات وإلقاء القبض على المتورطين في الحادثة والجريمة الفظيعة والمروّعة. ولا يخفى في قراءة الواقعة وتحليلها بعدها السياسي وارتباطها بصراع اللوبيات التي تشهده المنطقة سواء صراع المهربين وبارونات الفساد في البلاد أو صراع أطراف الحكم في قصورهم ومازالت إلى اليوم أسرار هذه الجريمة غامضة ورهينة الأبحاث الأمنية الجارية لحد الساعة..

بيل القروي رفقة نجيب دزيري منسق مجموعة السترات الحمراء على اليسار

اتحاد الشغل والإضراب العام

كان لاتحاد الشغل دور مهم في وصول نداء تونس للحكم منذ البداية، كما كانت له مواقف عديدة حتى أخذته النشوة على ما يبدو وأصبح يريد أن يلعب دور الحزب الحاكم أحيانا في فرض بعض القرارات السياسية الكبرى على غرار عزل الوزراء وحتى رؤساء الحكومات وهو ما حصل فعلا مؤخرا حيث تمسك الاتحاد بفصل عدد من الوزراء ورئيس الحكومة في ما عرف بوثيقة قرطاج 2 في موافقة تامة لتوجهات رئيس الجمهورية وإبنه المدير لحزب “أبيه” كما يصفه البعض. ولإن كان لاتحاد الشغل الحق في ممارسة السياسة من منطلق تاريخي بالأساس إلا أن مجموعة داخل الاتحاد باتت تتبنى في بعض المواقف مطالب حزبيّة ضيّقة تتوافق وأهواءها الحزبية (نداء تونس والجبهة الشعبية بالأساس) وهو ما زاد من تعقيد المشهد السياسي عموما لاسيما بعد إقرار الاتحاد للإضرابين عامين أحدها في القطاع الخاص تمّ إجراؤه الشهر المنقضي والآخر في الوظيفة العمومية هذا الخميس الموافق لـ17 جانفي 2019.

ولاشك أن هذا الإظراب الذي يعود أساسا لمطالب الزيادة في الأجور، سيكون له تأثير مباشر على الإدارة التونسية وميزانية الدولة، ولكن الأكثر خطورة هو المرحلة التي وصلت إليها مختلف المكونات الاجتماعية والسياسة والسلطة في ظل التناحر المحموم الذي يدور رحاه منذ أشهر وبات يهدد بشكل لافت السلم الاجتماعي في ظل حديث بعض الأوساط عن نوايا انقلابية هنا وهناك من بعض الأطراف المدعومة بالمال الأجنبي وتحديدا الخليجي. ويبدو ان مختلف الفاعلين والمتفاوضين من مصارعي حلبة الحكم التونسي اليوم لا يعون جيدا خطورة المرحلة سيما وأن بعض المظاهر التي نراها اليوم وبعض الممارسات لا تنبئ بغير نوايا الفوضى وتهديد السلم الاجتماعي ببث مزيد من الانقسام وخطابات الحقد والكراهية.

فهل سيغلب صوت العقل والحكمة ويغلّب مختلف المحاربين الجدد لغة العقل على لغة المصالح الذاتية والأطماع الانتخابية المقبلة أم أن حلبة الصراع ستبقى مفتوحة لتصفية الحسابات والمقامرة بمصير الدولة والشعب ؟ وإلى متى تتواصل سياسة الهروب إلى الأمام من قبل الحكام وأحزابهم عوض إيجاد حلول جذرية لكافة المشاكل التي تعصف اليوم بالبلاد ؟ 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

همزة: تونس مُفردة في محل جرّ.. بفعل فاعل مبني للمجهول..

تونس – السفير – ظافر بالطيبي يقول اللغويون أنّ الحال دائما ما يكون منصوبا، إلا…