YOUR EXISTING AD GOES HERE

تونس – السفير
بقلم: عبد الحكيم قعلول (باحث أكاديمي تونسي)

أربع سنوات مرَّت او اكثر على وقائع أعظم ثورات التونسين قاطبةً، وأكثرها تَعَرُّضاً للنهش، والظلم، والإجحاف يومها خرجت الملايين الغفيرة من أبناء الشعب، بمختلف طبقاته وفئاته الثائرة، يعلنون إرادتهم القاطعة: «الشعب يُريد إسقاط النظام»، ويُعبِّرون عن أملهم المشروع فى بناء مجتمع العدل، والمواطنة، والمساواة: مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، أُسوة فى اكتشاف كُنه المبادئ والمُثل العليا، والتطلع لتحقيقها على الأرض، والثورة على ظلم الحكّام واستبدادهم وجشعهم، والأمل فى حياة إنسانية راقية، تليق بالبشر المتحضرين.

كانت تونس، بعد عقدين من حكم بن علي، وأسرته، ومحاسيبه، لا تزال طريحة الشقاء، وظهر الأعداء فى برِّها، وولَّت منها كل الأشياء الطيبة. ولذا وجبت الثورة. وجاءت لحظة الانفجار، التى كانت لطمة لكل أعداء الحرية والشعب التونسي، الذين كانوا يروِّجون لأفكار كاذبة، وتواريخ مزيِّفةٍ، فى محاولات دائبة، لإثبات أنه شعبٌ خانع وذليل لا يثور أبداً، تجمعه الطبلة وتفرقه العصا، وهو حكم بالغ الظلم لشعب أبىِّ، تثبت كل صفحة فى تاريخه القديم والمعاصر أنه لم يسكت على الضيم أبدا.
غير أن هذه اللطمة لم تكن لأعداء الثورة فى الداخل وحسب، الذين يخشون منها على مصالحهم، وعلى ما نهبوه من ثروات وما اغتصبوه من حقوق، وما اكتسبوه من نفوذ، وإنما كانت لطمة، كذلك، لأعداء شعبنا فى الخارج أيضاً، وفى مقدمتهم الجلّاد الأكبر والعدو الأشرس للشعب،فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية، التى خسرت برحيل بن علي أحد ركائز سياساتها ومصالحها فى المنطقة، ومن هنا كان طبيعياً أن يتكالب كل خصوم الثورة وأعداء الوطن، وأن يتسابقوا على نهش جسدها الوليد، قبل أن تشب عن الطوق ويستقيم عودها، وتصبح عصيِّة على الكسر، وكان هذا موقف قصر الاليزي و الإدارة الخارجية، التى أفاقت سريعاً من صدمة الحشود المليونية، التى ترُّج الأرض رجَّاً، وتصعد هتافاتها إلى عنان السماء، فاستدعت من سيناريوهاتها الجاهزة فى الأدراج، أنسبها للمرحلة الجديدة، ولتحقيق هدفها فى كبح جماح الأحداث، وامتصاص زخم الثورة، ثم تبريد حرارتها، والسيطرة على مقودها، وأخيراً.. تبديد نتائجها، وكأن شيئاً لم يكن .
ظلت القوي الرافضة للتغير الثوري في المنطقة العربية، طوال أيام الثورة، على موقفها من دعم بن علي ونظامه، بعد أن فوجئت هذه القوي خاصة وزيرة الخارجية الفرنسية بالوضع فى الشوارع التونسية. وعلى العكس تماماً من خرافة أن ثورة 14جانفي مؤامرة أمريكية وقطرية لإسقاط بن علي، كما أشاع صبيان النظام وزبانية النهب ولصوص المال العام والثروة الوطنية، الذين عاثوا فى الأرض فساداً فى عهد المخلوع وإزاء هذا الوضع بالغ الحرج، المتمثل فى ملايين فى الشارع تزأر للمطالبة بإسقاط بن علي، وقوى داخلية وخارجية تقاوم بشدة حتى لايسقط النظام، ودول كبرى، كفرنسا ، لها مصالح هائلة فى بلادنا ومنطقتنا، يهمها، بالأساس، الحفاظ عليها، كانت المقايضة التاريخية التى حدثت، ومضمونها: التضحية برأس السلطة، مادام الحفاظ عليه لم يعد ممكناً، مع الدفاع بشراسة عن بقاء النظام نفسه.اى التضحية بالرأس الشائخ، الملفوظ من الجماهير، والذى لم يعد فى كل الأحوال مفيداً، مقابل الإبقاء على طبيعة العلاقات، ومراكز القوى والنفوذ، ومواقع صنع القرار السياسى والاقتصادى، والانحيازات الاجتماعية والاستراتيجية للسلطة، وتوجهاتها الداخلية والخارجية كما كانت فى عهد بن علي، مع بعض التغييرات الشكلية إذا اقتضى الأمر، وبحيث لا تمس جوهر المصالح والتوجهات لا من قريب أو من بعيد، وهذا ماحدث.
وفيما كانت القوى الثورية والجموع الغفيرة من التونسيين مختمرة ومنتشية بانتصارها كانت فصول عملية الإحلال والاستبدال، تجرى على قدم وساقس.
فالبديل المشتاق لاحتلال الحكم جاهزٌ يتلمظُ، بعد أن فاض به الشوق، بعيداً عن السلطة، أو فى غياهب المنافى والسجون، ومستعدٌ بكل جوارحه أن يقطع على نفسه كل العهود، وأن يقدم كل الضمانات لكى يحظى بالموافقة الأمريكية على ركوبه السلطـــة، خاصـةً أن الأمريكيين قد أعلنوا، منذ عام 2005 وعلى لسان ”كونداليزا رايس”: ”نحن لا نمانع فى وصول الإسلاميين إلى الحكم” فى دول المنطقة .
كان كل الغاضبين والمُضارين من نظام بن علي وما جلبه على البلاد من تأخر وفقر، ومرض وتخلف وخراب متفرقون، فانقسموا، هناك المستائين الى حدود المرض من إفساح السلطة الحاكمة المجال لتحول ظاهرة الإسلام السياسى إلى ورم سرطانى يلتهم الأخضر واليابس، وكانت القوى الثورية، ومن الشباب خاصة، وقوى الاسلامية الحزبية والحركات الاحتجاجية، وبعد أن أسقطت رأس النظام، غير مهيأة لتقدم المشهد: مفتتة، ومنقسمة على نفسها، وغير منظمة، ولا تملك بنية مؤسسية حقيقية، أو آلية تنظيمية متماسكة لمواجهة الأعداء، ولا برنامج واضح لمستقبل البلاد أو لطرق العمل فى مرحلة مابعد الخلاص من بن علي ومن هنا ذهب الحكم للذئب المتربص، الذى لم يوفر جهداً أو وقتاً، فى القفز على الفريسة الشهيِّة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

رأي/ غزة.. وكنت من الواهمين أيضا..

تونس – السفير – بقلم العيد القماطي كنت من الواهمين، في أنصار لهيب غزّة، أن يتص…